تأملات

back to overview

النقد كنوع من الاستقبال: هل يمكن قراءة الفكر العربي المعاصر بطريقة موضوعية؟

by:

هارالد فيرسين

النقد كنوع من الاستقبال: هل يمكن قراءة الفكر العربي المعاصر بطريقة موضوعية؟

 

هارالد فيرسين

 

 

30 July 2024

 

يبدو أن الفرق بين تاريخ الفلسفة والفلسفة المحضة واضح كل الوضوح. فالأول وصفي أصلا والثاني معياري بطبيعته. فبينما يدرس الفلاسفة  ويصححون الحجج حول ما قد نعلمه وما ينبغي أن نفعله بشكل نقدي، يصف مؤرخو الفلسفة كل الحجج والتصورات الفلسفية المقترحة حتى الآن.

وكما هو الحال في أغلب التحديدات الواضحة، يصعب الادعاء بذلك الوضوح بعد إعادة التفكير في الأمر. فالحجج ليست كلها متساوية بل يفوق بعضها البعض الآخر، وهدف الفلسفة هو ترجيح الحجج وتقويمها وفقا لما يكمن فيها من المنطق. وبسبب ذلك، إذا أراد  مؤرخ الفلسفة أن يفهم مغزى موضوعه فلا يستطيع أن يستغني عن التقييم الحجاجي. وبطبيعة الحال لا بد أن يسأل أسئلة من قبيل “من قال ماذا، لمن، ومتى”؛ ولكن إذا قصد أن يكون وفيا لموضوعه لا ينبغي أن يعالج الحجج ذاتها، وهذا يستلزم بالضرورة الإشارة إلى التناقضات والاستنباطات غير المنطقية. فبدون معرفة القراء بتعقيدات الموضوع، سيتكون لديهم انطباع خاطئ بأن الخطاب المدروس متماسك تماما. ولكن بهذا الانخراط في الجدل يكشف المؤرخ، بشكل واضح، عن موقعه كملاحظ محايد من الخارج لأن الإشارة إلى الفجوات الحجاجية هي بالضبط مسؤولية الفلاسفة.

إن العمل البغيض الذي يكونه التقييم التاريخي المعياري ليس مزعجا إذا كان الخطاب محل المناقشة تاريخي بحق. فقد يفضل مؤرخو الفلسفة اليونانية القديمة فيلسوفا على آخر وقد تستمر الخلافات الشديدة حول بعض النقاط المثيرة للجدل في أعمال أرسطو وأفلاطون في المستقبل المنظور.  وعلى الرغم من أن هذه النقاشات قد تؤثر على المناظرات المعاصرة التي يلهمها هذا الفيلسوف القديم أو ذاك، ففي مزاولة الوصف التاريخي للفلسفة القديمة يمكننا أن نستبعد  النقاش المباشر مع هذين العملاقين أو أي من القدماء الأقل بروزا.

تصبح الأمور أكثر غموضًا عندما نكتب عن القضايا المعاصرة. فإذا قمنا بوصف النقاشات المعاصرة، فسوف يكون من الصعب مقاومة الانجذاب إليها. ومرة أخرى، يجب أن يقوم وصف هذه النقاشات بتقييم الأسباب التي دفعت الناس إلى قولهم، وليس مجرد محتوى هذا القول. إذ عدم القيام بذلك يقدم مجرد نظرة عامة على المواقف، وليس تحليلا غنيا بالمعلومات لتثبيت هذه المواقف والمشاكل المحتملة التي تؤدي إليها حججها. فالمشكلة من منظور الموضوعية التاريخية المثالية هي أن صدور الحكم بهذه الأمور يجعل من أصدره فاعلا في هذه المناقشات. إن توضيح مزايا موقف ما في مقارنة مع موقف آخر هو وظيفة الفلاسفة بالضبط. ولذلك إذا قمت بهذا فيما يخص مناقشة مستمرة فسيصعب أن تميز نفسك عن أي مشترك آخر في هذه المناقشة.

تزداد أهمية مشكلة مزاولة المناقشات الفلسفية المعاصرة لمن يعمل في الأكاديمية الغربية ويهتم بالمناظرات الفلسفية التي تقع خارجها. بينما يشعر الكثيرون بضرورة توسيع آفاق الفلسفة الغربية التقليدية (وهم محقون في ذلك) فإنه من السهل أن نفهم لماذا يريدون الابتعاد عن هذه النقاشات الداخلية في الخطاب العربي، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار سيطرة الأكاديمية الغربية المستمرة والتقييدات المحلية التي يعاني منها الكثير في دول الجنوب. وأنا لا أتحدث هنا عن التحدي القديم المستهلك المتمثل في فكرة النسبية – أي فكرة أن التقاليد أو الثقافات الفكرية  المختفلة غير قابلة للقياس وبتالي فإن النقد عبر الثقافات لا فائدة منه. ولا أظن أن هذا هو الحال تاريخيا وأعتبر بالتأكيد أن الأمر أصبح أقل منطقيا في عالمنا الراهن المترابط. إن الإدعاء الوحيد الذي نناقشه الآن هو التالي: إذا كان التخلي عن العادات ذات المركزية الأوروبية وإعطاء صوت لمن تجاهلته الفلسفة الأوروبية هدف من أهداف معالجة الفكر العالمي الكلي، فلا بد أن يكون رد الفعل الأول هو الاستماع والتعلم وليس الدخول في هذه المناقشات.

وبقدر ما قد يبدو هذا الأمر مستحسنا، أود أن أقترح إعادة النظر فيه للأسباب المذكورة آنفا. إذا كانت الفلسفة  تدور حول الحجاج فلا يمكن أن يكون هناك أي طريقة صادقة لوصف محتواها دون الخوض في الحجج نفسها وترجيحها. ككل خطاب فلسفي نزاوله نحن البشر المعرضين للخطأ قد يؤدي الحفر الحجاجي في الفلسفات غير الغربية إلى حجج غير صحيحة، وتناقضات، وترجمات خاطئة، وانحيازات تمييزية والالتزام اللاواعي بنماذج معينة، أغراض لا يتم إثباتها بالحجة الفعلية. إن إظهار هذه الأخطاء هو ما لا ينبغي للوصف الكامل الجيد أن يقدمه. ولكن إظهار الأخطاء الحجاجية هو بالضبط ما يفعله الفيلسوف. وبعبارة أخرى، لا يمكن أن يكون هناك وصف موضوعي تماما لأي فكرة أو كتاب، أو خطاب فلسفي ويجب أن نتخلى عن هذا الأمل (إذا كان لدينا) فيما يتعلق بالفلسفات الغربية وغير الغربية.

طبعا، لا أقول إنه لا توجد قيمة في الأوصاف التاريخية للفكر غير الغربي المعاصر التي تتجنب التحليل الحجاجي. فالسياق التاريخي أمر جوهري لفهم النقاط الهمة في النقاشات المعاصرة والمعاني وكيف أن المساهمات الفردية فيها قد تكون مقصودة من قبل المؤلفين ويتلقاها جمهورهم. فهذه الأوصاف ضرورية إذا كنا جادين في تجاوز مجال الفلسفة المحصور في القواعد الفكرية الغربية المبتذلة.

ومع ذلك تنشأ المشاكل عندما يدعي وصف تاريخي منعزل عن التحليل الحجاجي بأنه يقدم وصفا جوهريا للمواقف الفلسفية لمفكر ما وخصوصا إذا ما قورن موقفه بمواقف خصومه. فبدون التحليل النقدي المناسب ليس للقارئ إلا تصريحات لما يود المؤلفون تحقيقه بفلسفاتهم ولكن هذا لا يعني نجاحهم في تحقيقه. ومن الواضح أن ذلك يغفل أمرا أساسيا، لأن الفهم الراسخ لنص ما لا يتطلب فقط معرفة بمحتوى النص، بل يتطلب بالإضافة إلى ذلك معرفة بأخطائه وتناقضاته وفهم أصلهما. وبشكل بسيط قد نقول إن القول بقصد تكوين تحفة فنية لا يوفر ضمانا للحصول عليها فعلا وكذلك القصد بتقديم تدخل مؤثر وأصيل وشيق لا يوفر ضمانا لتحصيله أيضا. فالفهم الجاد لما يحدث في هذه النصوص يتطلب من الشخص الخارجي المشاركة النقدية والشخصية ولكنه ممنوع من ذلك لأن المشاركة قد تحول الطرف الخارجي إلى طرف داخلي.

إن تأثير هذا التأريخ غير النقدي للفكر المعاصر يشعر، به بشكل خاص، غير المتخصصين في هذا الموضوع. فمن يهتم بالفكر غير الأوروبي ولا يمتلك الوقت أو المهارات اللغوية للدخول في هذه الموارد بنفسه لا بد أن يعتمد على المصادر الثانوية. ولكن إذا كانت هذه الدراسات تهدف إلى وصف محتواها بأمانة دون تقديم ترجمات كاملة وحرفية وإذا كانت، في نفس الوقت، تقتصر على أن تنقل النوايا المعلنة من جهة المؤلفين عندما قاموا بتقديم أفكارهم فقد لا يمكن للقارئ أن يفهم ما قالت المصادر الأولى فعلا. وبالتالي قد يقبل القراء هذه الادعاءات بظاهرها، أو قد يتساءلون عن برهنتها، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى نبذ هذه المناقشات المعاصرة التي تبدو لهم كلعب متفلسفين يتراشق بعضهم البعض بادعاءات لا أساس لها بدلا من الانخراط في مناقشة حقيقية.

ويتمثل تأثير هذا النوع من التأريخ غير النقدي في كتاب صدر حديثا لأحمد إغبارية بعنوان “سياسة الأصالة العربية”.[1] ويهدف هذا الكتاب إلى تقديم النقاشات حول الفهم الحديث للتراث وفائدته للمجتمع المعاصر من خلال التركيز على أعمال مفكرَين مختلفين: أستاذ الفلسفة المغربي محمد عابد الجابري والناقد الأدبي والمفكر السوري الشامل جورج طرابيشي. وعلى الرغم من أن تركيز الكتاب على التراث كموضوع أساسي بعد حرب يونيو ١٩٦٧ وعلاقته مع مثال الأصالة ليس أمرا جديدا إطلاقا فإنه يقدم نقاط فهم جديرة وتفاصيل تاريخية للسياق الثقافي العام الذي تطور فيه الفكر العربي خلال الفترة الأخيرة من القرن العشرين. وعلى وجه الخصوص، فإن تحليله للفرق المختلفة من المفكرين النقديين والتركيز على “ظهور شمال أفريقيا كمركز للفكر العربي الجديد” هو أمر مرحب به بشكل كبير.

على الرغم من الجدارة التاريخية الواضحة التي تكمن في هذا التحليل لبطلين مفكرين إلا أن الكاتب يقع في الفخ الموضح أعلاه. إذ يصف مقاصد هذين الناقدين العربيين دون أن يقيّم ما إذا كان ما يعتزمون تحقيقه قد تم تحقيقه بالفعل من خلال الحجج التي طوّراها. وعلى سبيل المثال، يقتبس الكاتب من كتاب سميرة حاج “إعادة تهيئة التقليد الإسلامي” الذي تصف فيه الإسلام كتقليد “يستعمل تصورا للحقيقة والعقل والأخلاق يختلف عن التصورات المقترحة في تقاليد الغرب.”[2] ويستعمل إغبارية هذا الوصف لنوع جديد من المفكرين وهو “المفكر الموصول” الذي ظهر في السبعينيات، كما يقول إغبارية. وبدلا من أن يهتم بالأفكار الأوروبية فقط فإن هذا المفكر يفضل أن “يكتشف الإمكانية الفكرية لتراثه الثقافي.”[3] وهذا المفكر (وبالتأكيد معظم النقاد هم ذكور) هو شخص لا يختار طرفا من طرفي الخطاب الثنائي الذي يكونه “السرد الحداثي التقدمي” الغربي، وبدلا من ذلك يظل “ناقدا لليسار واليمين، وشخصا لا ينتمي للحداثة ولا للتقليد.”[4]

وبغض النظر عن حقيقة أن اقتباس الحاج، الذي يشير إلى التركيز في خطاب التاسع عشر على العمل المتجسد كعلامة مميزة للتراث الإسلامي يتعارض تماما مع موقف الجابري وطرابيشي العقلاني، قد تم استخدامه خارج سياقه، يؤدي هذا الادعاء إلى السؤال التالي: هل يرقى هذا المفكر الموصول لمستوى قصده المعلن؟ هل هو ناقد للحداثي والتقليدي على حد السواء فعلا؟ وبإيجاز، هل يحقق ادعاءاته؟!

إذا ركزنا حاليا على المثل الأهم للناقد الموصول الذي يقدمه إغبارية، وهو محمد عابد الجابري، فإن هذا الادعاء أبعد ما يكون عن الوضوح. وبالطبع، قد قام الجابري بنقد للسرد الراسخ للفكر العربي المعاصر كصراع بين الحداثيين والتقليديين. وكذلك يقترح تحليلا جديدا ومثيرا لما يسميه “السؤال النهضوي” أو “لماذا تأخرنا (نحن العرب، نحن المسلمين، نحن الشرق) وتقدم غيرنا (أوروبا المسيحية…الغرب…) وبالتالي: كيف ننهض؟ كيف اللحاق بالركب، ركب الحضارة الحديثة؟” ويفترض أننا نحتاج إلى تصور جديد للتاريخ الفكري العربي إن أردنا فهما مثمرا لهذا السؤال النهضوي.[5]

ولكن في نفس الوقت قد نتسائل إلى أي حد تختلف القراءة الجابرية للتاريخ العربي عن القراءات “المطروحة من جانب تقاليد الغرب.” فالمشروع الفلسفي الرئيسي، الذي  التزم به الجابري خلال العقدين الآخرين للقرن السابق أدى إلى المجلدات الأربعة الرائعة المسماة بـ “نقد العقل العربي.” والدليل الموجه في كل هذه الكتب هو الاحتياج المفترض لتأريخ التاريخ الفكري العربي وتعقيل منطقه الداخلي بأسلوب مستوحى من التأريخ الغربي. فقصد المشروع هو اكتشاف جوانب الفكر العربي العقلانية التي تم دفنها من خلال الصراعات الأيديولوجية والعقائد الدينية ويقصد المؤلف أن يؤسس مجتمعا عربيا وحديثا وأصيلا باستعادة هذه الجوانب وتنشيطها في العصر الحالي.

بغض النظر عن الدخول في تفاصيل هذا المشروع فقد يتساءل المرء عما إذا كان هذا المشروع يرقى إلى مستوى ما يراه إغبارية “السمة المميزة” لإرث الجابري وهو محاولة لـ”تهميش الهياكل الأوروبية وتقييد سيطرة نماذجها على الإنسان المستعمَر سابقا (أي تصورات ووجهات نظر ورؤى العالم، وأساليب التحليل).”[6] ففي النهاية ليس واضحا إطلاقا كيف نجد تمثيلا لـ”تهميش الهياكل الأوروبية” في عملية معقلنة ومؤرخة للتاريخ العربي تستلهم من حركة مشابهة في التأريخ الأوروبي وتنوي أن تجعل  مفهوم العقل العربي يتماشى مع العصر – أي مع العصر الحديث. الجابري نفسه يشير إلى أوروبا كمثال لهذا النوع من التأريخ المعقلن وهو يستند إلى ديكارت وبيكون.[7] وقد نضيف إلى هذا اعتماد الجابري على التأريخ الاستشراقي الأوروبي – مباشرة أم غير مباشرة من خلال المنظورات التاريخية المستلهمة من الاستشراق مثل السرد المقدم في أعمال أحمد أمين. وعلاوة على ذلك قد نشير إلى ازدراء الجابري للعقل الفقهي واحتقاره التام للتراث الصوفي الذي يميز التأريخ الاستشراقي. وإذا أخذنا كل هذا بعين الاعتبار فليس واضحا كيف يظل الجابري حرا من الهياكل ذاتها التي يحاول أن يُضعفها.

وليست غايتنا أن نستبعد كل قيمة في أفكار الجابري. فربما توجد حجة جيدة يمكن تقديمها لابتعاد الجابري عن الاعتماد المبالغ على النماذج الغربية. فربما يتم استحضار التاريخانية الغربية لسبب بسيط وهو أنه من المستحيل الجدال ضد شيء ما دون ذكره. وقد يكون الأمر كذلك ولكن الحقيقة الحاسمة هي أنه لا يمكن إظهار ذلك إلا بتعامل نقدي وفلسفي مع النص وليس بمقاربة تاريخية وضعية فقط.

هل أنا، باقتراح ذلك، أقوض الفهم الموضوعي للجابري؟ ربما، إذا عنيت بالفهم الموضوعي وصفا منفصلا تماما عما قاله الجابري. ومع ذلك ما لا ينبغي أن ننساه هو أنه يوجد نوع آخر – وهو مثمر أكثر في وجهة نظري – للسعي للموضوعية وغرض هذه المقاربة للموضوعية هو تقويم ما يفعله عمل كتابي فعلا. ولا يتحقق هذا النوع من الموضوعية من خلال الانفصال، بل من خلال المشاركة النقدية. وهنا يصبح الموقف الأقل انفصالا أمرا ضروريا في تقييم مزايا عمل ما، ليس كشيء قائم بذاته  يعرضه مؤلفه بل كحركة في مناقشة. وبما أن كل مناقشة تحاول أن تجيب على أسئلة معينة فتخلق معيارا يمكن تقييمه كل مساهمة فردية، ألا وهو نجاح ادعاء ما في الإجابة على تلك الأسئلة. وإذا اعتبرنا القضية من هذا المنظور، فإن التحليل النقدي هو جزء أساسي لشرح قصد المؤلف وأفكاره.

وبالتأكيد هناك طرق أخرى للحصول على تأثير مماثل. فبدلا من تأليف أوصاف للعمل الأصلي قد يقدم المرء ترجماتِ كاملة له. وعلى الرغم من أن الترجمات ليست ابدا مرآة للنص الأصلي – لأنها تؤدي إلى مجموعة من المشاكل الأخرى ودائما تتطلب درجة من تأويل المترجم – فعلى الأقل لا تغفل الترجمات الجيدة التفاصيل وتترك اكتشاف التناقضات والتأويلات الشخصية للقارئ. وبطبيعة الحال يتطلب الفهم الوضح لمواضيع هذه الكتب معرفة السياق التي لا توفرها الترجمة، ولكن على الأقل يعي القارئ بالمنطق الداخلي الذي يكمن في الكتاب.

ويوجد طريق آخر لوصف أفكار الفيلسوف غير الغربي بشكل أكمل ومع الحفاظ على درجة من الانفصال وهو أن يصف المؤرخ استقبال الأفكار عند أقرانه. وهذا ، بمعنى ما، هو الطريق الأعلى. فلا يخلق فقط بعدا بين الشخص الذي يصف الخطاب المعاصر وأعضائه الذين يشاركون فيه، بل كذلك يوفر أسلوبا أكثر حيوية وشمولية للكتابة عن الخطاب كعملية جدلية تشجع التفكير النقدي. على سبيل المثال، قد يدرج المرء في نقاش حول مشروع الجابري نقدا لاذعا له، مثلما فعل جورج طرابيشي في مشروعه المسمى “نقد نقد العقل العربي.” (والغياب التام لهذا النقد الشامل المباشر الذي ألفه أحد البطليَن في كتاب إغبارية هو أمر مذهل. وبالنسبة لأولئك الذين على دراية بالفلسفة العربية ما قبل الحداثية قد نستطيع أن نقارن ذلك بتأليف كتاب عن الغزالي وابن رشد دون الإشارة إلى كتاب “تهافت التهافت”، وهو رد ابن رشد لرد الغزالي على التراث الفلسفي الإسلامي المسمى بـ”تهافت الفلاسفة.”)

وفي نهاية الأمر، أظن أننا نحتاج إلى كل ما ذكرناه أعلاه. فنحن نحتاج إلى ترجمات أكثر من العالم العربي وغيره. كما نحتاج إلى الجهود في المناقشات التي كونت هذا الفكر لكي نفهم الأسئلة التي تجيب عليها هذه الأعمال. ولكن الشيء الذي أظن أننا نحتاج إليه أيضا هو المشاركة النقدية.

إن مشكلة المنظور المركزي الأوروبي لا تكمن فقط في غياب الفلسفة غير الأوروبية في الفصول المدرسية الغربية وفي وسائل الإعلام الغربية وفي محال بيع الكتب الغربية، بل المشكلة الحقيقية هي عدم الاعتراف بها. فإن حتى لو تمت قراءة الفلاسفة غير الأوروبيين (أو الفلاسفة الأوربيين من القطاعات المهمشة في المجتمع) فإنهم غالبا ما يٌقرؤون بشكل تشييئي لا يعترف بادعاء الحقيقة الذي يكمن في جوهر عملهم. يمكننا أن نترجم كل ما نشاء، ويمكننا أن نملأ مكتبات كاملة بأوصاف للمناقشات من خارج النطاق الأوروبي، ولكن طالما لا يوجد تعامل جدي مع هذه الأفكار وطالما أننا نعالج الفلسفة غير الأوروبية معالجة تاريخية وليست فلسفية فلا يزال هناك نقص. إن الاعتراف يتطلب أن نأخذ بعضنا البعض على محمل الجد. ولكن هذا يعني ضمنا  أن نزن أفكارنا وأن نعترض عليها إذا شعرنا بضرورة ذلك. إن الاعتراف يتضمن مخاطرة على كلا الجانبين أن نكون مخطئين وأن نكون صريحين إذا شعرنا بأن تلك هي الحالة. هذا التعامل النقدي بالنص يزيد الفهم وهو ضروري كذلك إذا أردنا أن نتحرك من كتابة تواريخ الفكر إلى كتابة تواريخ الفلسفة على المستوى العالمي.

[1] Ahmad Agbaria, The Politics of Arab Authenticity: Challenges to Postcolonial Thought (New York: Columbia University Press, 2022).

[2] Samira Haj, Reconfiguring Islamic Tradition: Reform, Rationality, and Modernity (Stanford, Calif: Stanford University Press, 2009), 29.

[3] Agbaria, 57

[4] Agbaria, 61

[5] محمد عابد الجابري، اشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ١٩٨٩، ص  ٢٠.

[6] Agbaria 92

[7] الجابري، إشكاليات، ص ٣٥.

Harald Viersen is an assistant professor at Radboud University Nijmegen. His research covers modern and contemporary Arab thought, with a focus on questions of ethics, philosophy education, conceptions of time and the discourses on religion.

Twitter

Arabic Version of  Critique as reception: Can there be an objective study of Contemporary Arab Thought? translated into Arabic by Harald Viersen

Suggested Citation: Harald Viersen, „النقد كنوع من الاستقبال: هل يمكن قراءة الفكر العربي المعاصر بطريقة موضوعية؟,” in Denkanstöße – Reflections, 30.07.2024, https://philosophy-in-the-modern-islamic-world.net/critique-as-reception-can-there-be-an-objective-study-of-contemporary-arab-thought, ISSN 2941-0347.